جنازة بلا شهود في قلب البحر.. حين تتحول زوارق النجاة إلى توابيت عائمة
جنازة بلا شهود في قلب البحر.. حين تتحول زوارق النجاة إلى توابيت عائمة
في قلب البحر، حيث تنعدم إشارات الهاتف، وتضيع الصرخات في هدير الأمواج، يعلق آلاف اللاجئين بين الحياة والموت، لا صدى يُرجع نداءاتهم، ولا مرآة تُظهر وجوههم إلا تلك المكسّرة بين أمواج متلاطمة، تحوّل البحر من مساحة للرزق والملاحة والأساطير، إلى مقبرة مائية لا تُسمع فيها سوى حشرجات الغرق.
ولم يعد البحر منفذًا للحياة، بل صار شاهدًا صامتًا على موت جماعي لا يُوثق دائمًا، إذ تُلقى فيه أجساد اللاجئين بلا أسماء، بلا توابيت، بلا وداع، كأنهم لم يكونوا يومًا على قيد الأمل.
وتُظهر بيانات المنظمة الدولية للهجرة أن أكثر من 28 ألف شخص فقدوا حياتهم في البحر الأبيض المتوسط بين عامي 2014 و2023، وفي عام 2023 وحده، توفي ما لا يقل عن 3041 لاجئًا أثناء محاولتهم عبور هذا المسار، وهو الأعلى منذ عام 2017، ومع ذلك، تُعد هذه الأرقام جزئية، إذ لا تشمل أولئك الذين ابتلعهم البحر دون أن تُسترد جثثهم، أولئك الذين اختفوا في القاع دون أثر.
وليست الزوارق التي يستقلها اللاجئون سفن نجاة، بل توابيت مؤجلة، غالبًا ما تُصنع من بلاستيك رقيق أو خشب هش لا يصمد أمام أبسط العواصف، وتزدحم هذه الزوارق بأجساد أنهكها الفقر والنزوح، وقلوب أثقلتها الحروب والخوف، وأوراق ثبوتية لا تجد لها معنى في مرافئ أوروبا المغلقة.
بالنسبة لهؤلاء، البحر هو خيار البقاء الأخير، هو جسر للهروب من جحيم الحروب والانهيار الاقتصادي والاضطهاد السياسي، لكنهم ما يلبثون أن يكتشفوا أنه تحدٍّ وجودي قد يكون الأخير.
الملاذ الأوروبي يتحوّل لمطاردة
حين ينطلقون نحو ما يُعتقد أنه "الملاذ الأوروبي"، تتحوّل الرحلة إلى مطاردة مرعبة، الزوارق الهشة تصبح كفوفًا مرفوعة نحو السماء، تبحث عن يد إنقاذ، لكن الواقع أقسى: خفر السواحل لا يهرع دومًا للنجدة، بل أحيانًا للمطاردة والصدّ، بحجة "حماية الحدود".
تُشير منظمات مثل "أطباء بلا حدود" و"هيومن رايتس ووتش" و"العفو الدولية" إلى أن هذه السياسات ليست استثنائية، بل ممنهجة، وتتم أحيانًا بتنسيق مباشر مع حكومات العبور مثل ليبيا وتونس، وبتمويل أوروبي مباشر.
ومنذ عام 2015، موّل الاتحاد الأوروبي برامج "إدارة الحدود" في دول العبور بأكثر من 700 مليون يورو، بينها دعم مباشر لخفر السواحل الليبي. يُسوّق هذا التمويل كجزء من جهود مكافحة الاتجار بالبشر، لكن الوقائع تؤكد أن كثيرًا من اللاجئين يُعادون قسرًا إلى مراكز احتجاز تصفها تقارير الأمم المتحدة بأنها أشبه بمعسكرات تعذيب، تمارس فيها الانتهاكات الجنسية وسوء المعاملة والتجويع.
من جانبها، وثقت منظمة "Alarm Phone"، وهي شبكة أوروبية مستقلة تستقبل نداءات اللاجئين في عرض البحر، مئات الحالات التي لم تستجب لها أي سلطة أوروبية رغم نداءات متكررة عبر الإحداثيات، ويتم غالبًا تجاهل هذه النداءات بذريعة أن القارب لا يزال "داخل المياه الإقليمية لدولة غير أوروبية"، ما يعني أنه خارج نطاق "الواجب الأخلاقي والقانوني" للإنقاذ، وغالبًا ما تكون هذه الدولة ليبيا.
مسؤوليات دون محاسبة
رغم وضوح اتفاقيات القانون الدولي للبحار، التي تلزم السفن والدول بإنقاذ أي شخص يواجه الخطر في عرض البحر، فإن الواقع مليء بالاستثناءات القانونية والمناطق الرمادية. يُلقى باللوم على شبكات التهريب، وعلى دول المنشأ، وأحيانًا على اللاجئين أنفسهم بدعوى "المخاطرة"، في حين تبقى مسؤولية الحكومات عن تأخير الإنقاذ أو عرقلته بعيدة عن المساءلة.
في يوليو 2023، غرق قارب قرب السواحل اليونانية كان يحمل أكثر من 700 لاجئ، وفتحت الحكومة اليونانية "تحقيقًا"، لكن تقارير من الجارديان وبي بي سي وشهادات ناجين تؤكد أن خفر السواحل اليوناني ربما تسبب في غرق القارب أثناء محاولة جره بطريقة غير آمنة. حتى الآن، لم يُحاسب أحد.
وتستغل بعض الحكومات حوادث الغرق لتبرير مزيد من التشديد في سياسات الهجرة، مثل بناء الجدران البحرية، وزيادة الدوريات الجوية، وتمويل آليات الردع بدلاً من الإنقاذ. لكن الإحصاءات تقول غير ذلك، فقد زادت نسبة الهجرة غير النظامية من تونس إلى إيطاليا عام 2023 بنسبة 112% مقارنة بالعام السابق، وفقًا لوكالة فرونتكس. ما يشير إلى أن الردع لا يُوقف الهجرة، بل يُغير مساراتها لتصبح أكثر خطورة.
وراء الأرقام، هناك وجوه وقصص وصدمات لا تُروى، الأطفال يصلون إلى الشواطئ الأوروبية وهم يعانون من صدمة البحر.. صمت، تلعثم، نوبات هلع، كوابيس، ففي جلسات العلاج النفسي، يرسمون البحر بلون أسود، لا كرمز للحرية كما تخيلوه، بل كوحش التهم عائلاتهم.
أهمية الحلول التنموية
أكدت نائلة جبر، رئيس لجنة مكافحة ومنع الهجرة غير الشرعية والاتجار بالبشر في مصر، أن الاتحاد الأوروبي يعاني تحديات اقتصادية صعبة، خاصة في ظل تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية والأزمة الاقتصادية العالمية التي فاقمتها جائحة كوفيد-19.
وقالت جبر، في تصريحات لـ"جسور بوست"، "الاتحاد الأوروبي قد توجّه معظم موارده إلى مواجهة هذه الأزمات، ما أثر بشكل كبير على قدرته على استيعاب المزيد من اللاجئين، وعلى الرغم من استقباله العديد من اللاجئين الأوكرانيين، فإن الاتحاد الأوروبي يفضل إتاحة الفرص لهم في أسواق العمل، في حين يغلق أبوابه أمام اللاجئين القادمين من مناطق أخرى، في وقت يعاني فيه ضغوطًا اقتصادية متزايدة".
وأضافت أن الاتحاد الأوروبي في الوقت الراهن يواجه تحديات كبيرة في إدارة تدفقات الهجرة، حيث تقتصر المساعدات الإنسانية المقدمة على اللاجئين على محاولات تكون غالبًا أقل من المطلوب بكثير، الظروف الاقتصادية والسياسية داخل الاتحاد تدفعه إلى تبني سياسات تقليص حجم تدفق اللاجئين، وذلك عبر إغلاق الحدود أمامهم، مع التركيز على استقبال اللاجئين من بعض المناطق دون الأخرى.
وشددت جبر، على أن المسؤولية الرئيسية عن هذه المآسي التي يعيشها اللاجئون تقع على عاتق تجار الموت، الذين يتاجرون بحياة البشر من خلال تهريبهم عبر البحر بشكل غير قانوني مقابل مكاسب مالية، القانون المصري 64 لسنة 1982، بالإضافة إلى القانون المصري لعام 2016 الخاص بمكافحة الهجرة غير الشرعية، فضلاً عن برتكول باليرمو الدولي، يجعل المهربين عرضة للمسؤولية الجنائية جراء تورطهم في تسهيل الهجرة غير الشرعية.
وبينما يدعو الجميع إلى البحث عن حلول للحد من ظاهرة الهجرة غير الشرعية، أكدت جبر أن القضاء على هذه الظاهرة بالكامل أمر غير ممكن، بل ينبغي العمل على تقليل أسباب الهجرة عبر تطوير وتنمية الدول المصدرة للهجرة غير الشرعية. وأوضحت أن الخطوة الأولى تتمثل في خلق فرص عمل حقيقية ومستدامة في هذه البلدان، بالإضافة إلى توفير برامج تعليمية ودعم تنموي يسهم في الحد من دوافع الهجرة غير الشرعية.
وأضافت جبر أن الحلول المتاحة تشمل أيضًا توفير مسارات قانونية للهجرة، مثل برامج الهجرة الدائرية والموسمية، التي تتيح للمهاجرين فرصة السفر والعمل بطرق شرعية وآمنة، بما يسهم في تنظيم عمليات الهجرة وتقليل الأخطار التي تواجه اللاجئين في رحلاتهم.
وأكدت رئيس اللجنة الوطنية التنسيقية أن المجتمع الدولي مطالب بالتحرك بشكل جاد للحد من ظاهرة الهجرة غير الشرعية، من خلال تعزيز التعاون بين الدول وتفعيل السياسات التي تركز على التنمية المستدامة في البلدان المصدرة للهجرة، ما يسهم في حماية حياة البشر، ويعزز الأمن الإنساني على المستوى العالمي.
يأس الشباب الإفريقي
قال سيبويه يوسف، الباحث السياسي السوداني، إن الهجرة غير الشرعية تمثل واحدة من أخطر ظواهر القرن الحادي والعشرين، وأحد أبرز التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تعصف بالقارة الإفريقية وتلقي بظلالها القاتمة على ضفاف أوروبا.
وعدّ يوسف، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن جذور هذه الظاهرة تضرب عميقًا في تربة الفساد السياسي وسوء الحكم المنتشر في دول جنوب الصحراء، حيث فشلت الحكومات في توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية، كالتعليم والصحة، إلى جانب الفجوات الطبقية الصارخة، التي دفعت الشباب إلى البحث عن حياة بديلة، حتى وإن كانت نهايتها على أعتاب الموت.
وأضاف: "ما نراه اليوم من قوافل بشرية تعبر الصحراء وتخوض غمار البحر المتوسط في مراكب بدائية، لا يعبّر فقط عن الهروب من الفقر، بل عن يأسٍ جماعي جعل من الموت خيارًا أكثر احتمالًا من البقاء"، الشباب الإفريقي، الذي يخوض هذه الرحلة بنسبة فشل تفوق 90%، إنما يعكس حجم الإحباط وانعدام الأمل، في ظل أنظمة عاجزة وأوطان لا ترحب بأبنائها.
وأشار يوسف إلى أن بعض الدول مثل ليبيا، بعد الحرب الأهلية والانهيار المؤسسي، تحولت إلى بؤر ساخنة لتهريب البشر، حيث تحكم العصابات والمليشيات المسلحة السواحل المفتوحة، وتدير شبكات معقدة لتمرير آلاف المهاجرين، وسط غياب تام لأي رقابة أو حماية، قائلًا: "هذا الواقع خلق مراكز استراتيجية للهجرة غير الشرعية، أصبحت أشبه بأسواق نخاسة حديثة في قلب الشمال الإفريقي".
وبيّن أن الاتحاد الأوروبي، رغم جهوده في دعم خفر السواحل الليبي أو تمويل قوات مثل "الدعم السريع" السودانية سابقًا، بهدف كبح جماح الهجرة من بوابات السودان، ما زال عاجزًا عن معالجة جذور الأزمة. وأردف قائلًا: "الهجرة لم تعد مجرد تحرك بشري، بل أزمة سياسية واقتصادية وأمنية مركبة، ومع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، تعمق الكساد الأوروبي، وتفاقمت المخاوف من الوافدين كونهم منافسين على موارد محدودة".
وتحدث يوسف عن تغيّر السياسات الأوروبية، مشيرًا إلى تزايد التشدد في قوانين اللجوء، واتخاذ بعض الدول خطوات غير مسبوقة، مثل الاتفاق الذي أبرمته بريطانيا مع رواندا لترحيل طالبي اللجوء الذين رُفضت طلباتهم. وتوقّع أن تشهد المرحلة المقبلة توترات بين الأوروبيين والمهاجرين، خاصة في ظل تصاعد القومية والشعبوية وسياسات تقشفية قد يعيد تبنيها زعماء مثل ترامب.
وأكد أن فصل الصيف، الذي يُعد موسم الهجرة المفضّل بسبب انخفاض نسب الغرق، سيشهد تناميًا جديدًا في حركة الهجرة، ما يفرض ضرورة التحرك العاجل، ليس فقط عبر الإجراءات الأمنية، بل من خلال دعم تنموي فعلي في إفريقيا.
وختم يوسف تصريحاته، بقوله: "إن أوروبا اليوم تدفع ثمن استعمارها القديم وسوء إدارتها الحديثة لملف إفريقيا؛ فنهب الثروات، وإضعاف الدول، وتمويل الحروب، كلّها أفعال ارتدت إلى صدور من ارتكبوها، وما نشهده اليوم ليس إلا الحساب المؤجل لتاريخ من الهيمنة والفشل في بناء شراكات إنسانية حقيقية".